قصة الفرعون المارق
هذه الرواية التاريخية لمحفوظ كُتبت بعد وقتٍ طويل من كتابة الثلاثية التاريخية، تحديدًا عام 1985، وبالتأكيد خرجت فكرتها وأسلوبها مختلفًا عن الروايات القديمة. تدور الرواية بعد سنوات من وفاة الملك المارق أمنحتب الرابع أو إخناتون، يبحث أحد الشباب عن حقيقة هذا الفرعون الذي تكثر حوله الأقاويل، لذا يقرر زيارة مجموعة من المقربين من الفرعون ويسمع منهم نفس القصة بدايةً من طفولته ثم تهربه من التدريبات ليكون حاكمًا، ثم فترة الشائعات والقلاقل عن إيمان الفرعون الغامض حتى المواجهة والاعتراف بالإله الواحد، ثم يحكون قصة مدينة الإله الجديد والهجرة إليها..
هذه القصة تُروى أكثر من مرة لكن بتفاصيل مختلفة تبعًا لمن يحكيها. في الرواية زار الفتى رئيس الكهنة والمستشار «آي» والأرملة الحسناء نفرتيتي وأختها موت نجمت و«بك» المهندس المعماري الذي صمم معبد أخناتون ورئيس الكتبة وكاهن آتون وطبيب أخناتون الشخصي وعددًا من الشخصيات الأخرى. يحكي كلٌّ منهم نفس القصة بإضافة رأيه الشخصي ومع بعض العناصر المختلفة، لكنها تظل عن نفس الشخص ونفس الأماكن، ويبحث القارئ مع هذا الشاب عن الحقيقة.
حظيت هذه الرواية بتفاعلٍ أفضل وأكثر من الروس من رواية «رادوبيس/ فرعون والمحظية»، ومن خلال قراءتهم يمكننا تقسيم أسباب هذا التفضيل، لكن أهمهم من رأيي هو استخدام تقنية تعدد الأصوات؛ فنفس القصة تُروى مرارًا وتكرارًا لكن بتفاصيل وصوتٍ مختلف، وهذا بحد ذاته يوجهنا في طريقين.
الطريق الأول أن تعدد الأصوات أضاف للقصة متعة ربما لن توجد في القصة الأصلية إذا حكى شخصٌ واحد سيرة إخناتون بتفاصيلها؛ فالكل يعلم تقريبًا القصة التقريبية لهذا الفرعون الذي أراد توحيد الأديان – حتى الروس – لكن فكرة تغيّر الآراء من فصلٍ لفصل مثيرة وتستفز القارئ لمعرفة أيُّهم على حق، بل وتجعله يساهم أيضًا في تكوين رأيه الخاص دون أن يوجّهه صاحب النص إلى فكرته هو..
كتبت قارئة في إحدى مواقع تقييم الكتب..
«الشيء الذي وجدته مثيرًا للاهتمام في الرواية هو موقف المؤلف. نجيب محفوظ ترك للقارئ بطريقةٍ ما الحق في أن يقرّر بنفسه ما حقيقة الفرعون المارق الأسطوري أخناتون (أمنحتب الرابع) دون أن يفرض أيًّا من آرائه الشخصية، وشخصيًّا جذبني هذا الموقف من المؤلف الذي اهتم بالقراء.»
أما الشيء الثاني الذي أضافته تقنية تعدد الأصوات فهو التفاصيل المختلفة لكل قصة، وهنا لا أتحدث عن حوارات وأحداثٍ خاصة بإخناتون ومعرفة حقيقته، بل البحث عن حقيقة البيئة التاريخية لمصر القديمة؛ فتعدد الساردين أتى معه تعدد مِهَنِهم، فسوف يتحدث رئيس الكهنة من داخل المعبد فيصف طقوس عبادة آمون وكيف يديرون المعابد ويصف نفوذهم، وسوف يحكي الصديق حور محب فيتحدث عن المحاربين ودورهم في قيادة الحملات.
والمميز أن القصة كلها لا تدور داخل القصور، بل هناك شخصيات من عامة الشعب وشخصيات ذات تأثير مثل قائد الجيش وقائد الشرطة وأميرة مأسورة في حريم الملك، وكلٌّ منهم ينقل جزءًا مختلفًا من الحياة اليومية وفي نفس الوقت يكمل قصة البطل. «من الناحية المجازية أعتبر الروايات التاريخية لموضوعات مصرية قديمة نوعًا من آلة الزمن التي تسمح بالعودة إلى فترةٍ أو أخرى في تاريخ الدولة المصرية القديمة، كامتدادٍ للكتابة تشعر ببيئة العصر القديم. في الواقع هذه هي مهمتهم بالتحديد.»
بعد تعدد الأصوات هناك عاملٌ آخر «البطل»: الفرعون أخناتون شخصية حقيقية، والشخصيات الحقيقية دائمًا ما تلفت الأنظار كما ذكرتُ في جزء اللص والكلاب، لكن ماذا إذا كانت تلك الشخصية هي فرعون حقيقي مثير للجدل! هذا أفضل بالتأكيد. وجدتُ في الكثير من المراجعات إشاراتٍ إلى أن القرّاء يعرفون مسبقًا عمّن يقرؤون.. تعليقات مثل.. «أمنحتب الرابع (من الأسرة الثامنة عشرة) الذي أطلق على نفسه اسم أخناتون بعد الاضطرابات الدينية وإدخال عبادة آتون هو بلا أدنى شك أحد الحكام المفضلين لدي في أكثر من 3000 عام من التاريخ المصري القديم (جنبًا إلى جنب مع رمسيس الثاني).»
وبالفعل هناك الكثير من الكتب المتخصصة عن الملك أمنحتب الرابع وفترته التاريخية من كتابات علماء المصريات الروس وترجماتٍ من لغاتٍ أخرى، كما أن الإنترنت يزخر بمعلوماتٍ ومقالاتٍ عن الملك المصري وصوره، وتلك الأخيرة لربما هي علامة اهتمام المواطنين العاديين الذين لا يقرؤون الكتب المتخصصة لكن لديهم حدٌّ أدنى من البحث عن هذه الشخصية.
«يُظهر محفوظ للقارئ دليلًا على أن مصر دولة قوية وشديدة، ومن ثرواتها يمكنك أن تذكر المقابر والمعابد التي بُنيت بعملٍ ودماء العبيد، هناك أيضًا الحكام الاستثنائيون الذين آمنوا بمعجزة وعاشوا من أجل نصرة الحقيقة.»
روايتان تاريخيتان ولكن..
لدينا هنا مثالين للروايات التاريخية من قبل كاتب، الأولى رواية غير محبوبة (رادوبيس/ فرعون والجارية) والثانية رواية جاءت أغلب تقييماتها عالية وإيجابية للغاية (أخناتون العائش في الحقيقة). إحدى أسباب عدم التعاطف مع رادوبيس هي الشخصيات العاطفية المندفعة، وهنا على العكس جاءت الشخصيات بأبعادٍ عديدة، وكلٌّ منهم يفسر وجهة نظره تمامًا.
أما العامل الثاني الخاص بكونهما رواياتٍ تاريخية، فحبكة الأولى لم تَتحْ وصف البيئة بل ركزت على القصة الأساسية، بينما أسلوب السرد في قصة أخناتون فرض تدخّل عناصر عديدة، وكلٌّ منهم يأتي بخلفيته وبوصفه الخاص، إلى أن شعر القارئ أن هناك أكثر من شخصية..