فن

«أحسن ما كتبت»: جولات كلاسيكية شيقة

مراجعة لكتاب «أحسن ما كتبت»، والذي يجمع مختارات أدبية وفكرية من أعلام النهضة العربية، تقدم رحلة ثرية في الأدب والفكر والسياسة بأسلوب كلاسيكي مشوّق.

future غلاف كتاب «أحسن ما كتبت» من إصدارات بيت الحكمة 2025

تسعة عقود تقريبًا مرّت على صدور هذا الكتاب في نسخته الأولى عام 1934 عن دار الهلال، تسعة عقود جرت فيها مياه كثيرة في أنهار الإبداع والثقافة العربية، حتى إن المُطَّلع على أسماء الكتّاب الذين في هذا الكتاب/السفر الفريد من نوعه ربما يجهل بعضًا منهم، رغم أنهم ملأوا الدنيا وشغلوا الناس في زمنهم ذاك! نحن إزاء كتابات من بواكير النهضة العربية، لعدد من الأقلام المهمة في مجالات الفكر والأدب والفلسفة وعلم الاجتماع.

القراءة لهذه الأسماء متعة بحد ذاتها، ليس فقط لما تمتاز به لغتهم من جزالة الألفاظ وحسن اختيار العبارات، والتعبير عن المعاني بأكثر الطرق شاعرية، ولكن لأنها تكشف بشكل جلي عن أفكار هؤلاء الكتّاب في ذلك الزمن، بالإضافة إلى أن معظم تلك المقالات هي من اختيار أصحابها في تلك الفترة. وأظن أن فكرة إشارة كاتب إلى مقالٍ أو نصٍ له باعتباره «أحسن ما كتب» مغامرة كبرى، فما بالك إذا كانت قراءة تلك المقالة بعد أعوام طويلة من نشرها، وبين يدي قارئ قد لا يعرف ملابسات وظروف كتابة النص أو المقالة، بل قد لا يعرف صاحبها أصلاً!

جمع هذا الكتاب مقالات في الأدب، والرحلات، والتاريخ، والسياسة، والشعر، ولعل الجميل فيه هو تلك الجولة الحرة التي ينتقل بها القارئ من مقالٍ إلى آخر، ومن فكرة إلى أخرى، فهو كتاب لا يختص بباب من المعرفة دون غيره، بل يجمع ذلك كله، بالإضافة إلى أنه يعرّفنا على أسماء لم نكن نعرف عنها الكثير، سواء من الكتّاب أو حتى الشخصيات التي يتناولها بعض الكتّاب فيحكون عن مآثرهم أو أخبارهم.

وقد نعرف أن الصحافة العربية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين زخرت بعدد من الكتّاب والمفكرين والأدباء الذين كتبوا ونشروا مقالاتهم وقصصهم بشكلٍ منتظم في عدد من المجلات والدوريات العربية، بدءًا من الهلال والثقافة وصولًا إلى الرسالة ومجلات الأستاذ والبيان وغيرها. ولعلي أحيل القارئ هنا إلى موقع «أرشيف الشارخ»، الذي لا يزال يحتفظ بالنسخ الأصلية لعدد من هذه المجلات وقد أتاحها للقراء بشكلٍ مجاني، وسيجد فيه القارئ كنزًا حقيقيًا يضم العديد من المجلات في شتى صنوف الفن والأدب والثقافة.

ينتمي «أحسن ما كتبت» إلى سلسلة إصداراتٍ جديدة تنشرها دار «بيت الحكمة» تحت عنوان (عيون الحكمة)، وتحتوي على كتابات تعبّر عن حركة التنوير في الثقافة العربية، جمعت فيها روائع البيان في الثقافة بما تتميز به من التعبير العميق عن احتياجات العقل المستمرة. فنجد فيها فصولًا من كتب التاريخ، كما نجد بانوراما الأدب الشرقي، بالإضافة إلى كتب فلسفية خاصة مثل «فن الحياة» لأندريه موروا، و«مذهب الذرائع» ليعقوب فام، و«غزليات حافظ الشيرازي»، وغيرها من الكتب والدراسات المنتقاة بعناية لتمثل وتعكس الثقافة العربية في بواكير عصر النهضة.

اختار معدو هذا الكتاب أن يضم مختارات من مقالات عدد من كتّاب الشرق العربي (على حد تعبيرهم)، إذ سنجد فيه الكتّاب المصريين مع الشوام، سوريين ولبنانيين، وكلهم يتحدثون لغة واحدة ويتناولون المواضيع المهمة نفسها. كما حرصوا على الجمع بين الشعر والنثر، فسنجد قصائد للعقاد وأحمد محرم وجميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي وبشارة الخوري، إلى جانب قصص مصطفى صادق الرافعي ومحمود تيمور ومشهد مسرحي لتوفيق الحكيم وخليل مطران، مع المقالات الفكرية والأدبية لأحمد حسن الزيات وعبد الرحمن الرافعي وغيرهم الكثير.

يحضر زعيم الأمة «سعد زغلول» في أكثر من مقالٍ في الكتاب. فنجد في المفتتح مقال الشيخ عبد العزيز البشري «في حضرة الرئيس»، الذي يتحدث فيه عن صفاته ومناقبه. كما يتناوله طه حسين بشكلٍ مختلف في مقال «عظيم» نشر بعد وفاة سعد زغلول بفترة ويتحدث فيه عن ضرورة استعادة ذكره وسيرته. كما نجد خطبة محمد التفتازاني في استقبال سعد، وحديثه عن حزب الوفد وما يتأمله منه في ذلك الوقت.

يحضر كذلك الملك فيصل (الأول)، حاكم سوريا عام 1920، الذي قاد ما عرف بالثورة العربية الكبرى، وتوفي عام 1933، ورثاه عدد من الشعراء والأدباء بعد وفاته. ونجد هنا قصيدة لبشارة الخوري «الشاعر القروي» يرثيه فيها، ومقالًا آخر لوزير خارجيته عبد الرحمن شهبندر يرثيه كذلك ويعدد مناقبه.

كما يتحدث عبد الرحمن عزام عن «الإمبراطورية العربية.. هل آن أن تتحقق؟» فيقول:

«نحن في القرن العشرين في عصر التناطح بين كتل بشرية ضخمة، والتنافس بين قوى مجتمعة تستند إلى موارد متعددة من الثروات الطبيعية، فلا سبيل لمجاراتها والعيش معها على قدم المساواة، ولا سبيل لأن يكون لأمتنا صوت مسموع في الدنيا إلا إذا كانت لنا جبهة متراصة تعد وراءها عشرات الملايين وتستمد لها العيش والرخاء من ثروات منوعة في الزراعة والصناعة. فمن المستحيل على الشعوب القليلة العدد المستندة في عيشها إلى غلة واحدة أن تتقدم إلى الصدر في محضر الأمم الكبيرة، بل لا بد أن تعيش ذيلًا وعالةً على غيرها».

والمعروف أنه واصل دعواته ونداءاته لجمع شمل الأمة العربية، خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حتى تشكلت في النهاية الجامعة العربية، التي أصبح اسمها فيما بعد «جامعة الدول العربية»، وكان أول أمين لها عام 1945.

إلى التاريخ ننتقل مع الكاتب الصحفي أحمد حافظ عوض، الذي كان مندوبًا للخديوي، في مقال يتناول «تجارة مصر قبل الحملة الفرنسية» من كتابه «فتح مصر الحديث». كما نجد عددًا من المقالات والموضوعات والقصائد التي تتحدث عن الحرب العالمية الأولى والموقف منها، وكان اسمها في ذلك الوقت «الحرب العظمى»، وبهذا العنوان كتب أحمد محرم قصيدة يستعرض فيها أهوال الحرب وما جرّته على البشرية من دمار.

ليست السياسة وحدها الحاضرة في الكتاب، بل هناك عدد من مقالات في أدب الرحلة شديدة الطرافة والجاذبية. فنجد الأستاذ أمير بقطر، عميد قسم المعلمين بالجامعة الأمريكية في ذلك الوقت، يكتب مقالًا عن «شلالات نياجرا»، كما يكتب أحمد حسين باشا عن الرحالة في الصحراء وما يجب أن تكون أخلاقه في تجربة شديدة الخصوصية كهذه. ومن المقالات ما يكون مرتبطًا بأحداث خاصة بذلك الزمان، مثل مقال الكاتبة اللبنانية مي زيادة عن أول رحلة طيران بالمنطاد. وهي لا تصف الرحلة بتفاصيلها العلمية البحتة، وإنما تنقلها إلى خيالها الأدبي الخصب، وكأنما تكتب قصيدة تحية للطيار «هوجو أكنر»، فتقول له:

«روّعت القلوب، أنت الذي لا تأخذك روعة، ولكنها روعة العجب. وضعضعت الأفكار، أنت الذي لا ينتابك تضعضع، ولكنه تضعضع الطرب. تجمع الأفق خاشعًا عند مرورك، فكأنه قد انقلب ميدانًا أعد لبديع إبلائك، واشرأبت السحب، وشحب قرص الشمس، وبهت لمعان الأشعة لأنها جميعًا لمحت فيك دليلًا على قدرة الله في الإنسان».

بين هذا وذاك نجد مقالات خاصة حول مفاهيم عامة انشغل بها هؤلاء الأدباء والمفكرون، مثل الرقي والسعادة الإنسانية، والتسامح، والعبقرية، والخطابة وصفات الخطيب وعلاقته بجمهور المستمعين، ومقال عن الفروسية، وغيرها من الموضوعات الثقافية العامة.

# كتب

عائشة مختار ترسم لوحة مجاز في «الريح لا تستثني أحداً»
«الأب الغني والأب الفقير»: هل يستحق الضجة حقاً؟
نبي الإسلام في القرن العشرين: السيرة بأقلام الأدباء الراحلين

فن