فن

أجساد بطولية: تاريخ قمع الجسد الأنثوي

عمليات جراحية قاسية للنساء وشروخ في الوجه بدعوى تجميله.. كيف ساهمت العادات الاجتماعية والحكومات في قمع أجساد النساء وهل أزال التاريخ النضالي هذا القمع؟

future ملصق الفيلم الوثائقي السوداني «أجساد بطولية»

الفيلم الوثائقي السوداني أجساد بطولية للمخرجة سارة سليمان، المعروض مؤخراً بمصر، في إطار برنامج أيام القاهرة السينمائية بسينما زاوية؛ لتوثيق نضال النساء في مجتمعهن من بداية القرن العشرين وحتى سبعينياته، والذي تطرقت فيه المخرجة لنضالات النساء من خلال الجسد الأنثوي، الذي قمعته الحكومات والعادات الاجتماعية عبر التاريخ، والتي تبدأ بالتعامل مع منطقة المهبل عند النساء، وعملية الختان كمرحلة أولى من اقتطاع جزء من ذلك العضو الحساس منذ الطفولة، وكيف كانت الفتيات يُقنعن بها، وأنها مرحلة مهمة يجب بعدها ألا يخالطن الصبية؛ لأنهن أصبحن مكتملات الأنوثة.

مشهد من الفيلم الوثائقي «أجساد بطولية»

يليها ما يسمى بعملية العَدل، وهي عملية جراحية تُجرى للنساء بعد الولادة، هدفها تضييق فتحة المهبل بعد خروج الجنين، وتُعد تلك العملية إجراءً في صالح الزوج لاستمرارية استمتاعه أثناء العلاقة الحميمة، وكما هو موضح في الفيلم، تُجرى العملية في كل مرة تلد فيها المرأة، مهما بلغ عدد مرات الولادة.

وعلى شاكلتها هناك عملية أخرى تسمى عملية العَدل للقبر، حيث تُجرى نفس العملية، ولكن تُخيَّط منطقة المهبل بأكملها، حتى تعود المرأة مرة أخرى بكراً، ظناً أنها يجب أن تلقى ربها بنفس الحال الذي وُلدت عليه.

أما عن الولادة نفسها، فهناك ما يسمى عملية الولادة بالحبل، وهي عبارة عن ربط يدي الأم بحبل معلق في سقف الغرفة، حيث تشد نفسها إلى الأعلى في نفس الوقت الذي تقوم فيه إحدى السيدات بجذب الجنين في الاتجاه المعاكس، وذُكر على لسان إحدى ضيفات الفيلم، أنه كان من الممكن خروج أجزاء من رحم الأم مع الجنين أثناء تلك العملية القاسية.

يرتكز الفيلم على مجموعة من المحاور، وأولها رصد تلك العمليات الخاصة بالتعامل مع المرأة، بجانب محور هدف قمع الحكومات لجسد المرأة، ومنها ترسيخ تلك العادات بقصد التشويه ومحو دورها وإبطال رأيها، وذلك عن طريق رصد تاريخ الحركات التحررية في السودان، ورائدات التغيير على مدى سبعة عقود متتالية، وتأثيرهن، مثل الاتحاد النسائي السوداني، ومدرسة الدايات، ومجلة صوت المرأة وتأثيرها على رفع الوعي النسوي المعادي للحكومات، مثل فاطمة أحمد إبراهيم، وهي واحدة من أشهر النساء في الحركة الشيوعية بالسودان، وأول سودانية تُنتخَب عضواً برلمانياً في الشرق الأوسط عام 1965، وبجانبها ذكر الفيلم أدوار كل من: مهيرة بنت عبود، وفاطمة عبد المحمود، وسعاد الفاتح البدوي، وخالدة زاهر، ورصد بشكل واضح علاقتهن بالأنظمة الحاكمة وتعرض بعضهن للسجن والعنف.

لذا ترسخت كل هذه العادات وأكثر لقطع أي ألسنة نسوية قبل البدء في الحديث عن أي حقوق، وتمثل القطع بشكل حقيقي في عادات بعينها بخلاف استئصال بعضٍ من أجزاء الجسم بالتركيز على المناطق الحساسة، فكان هناك عادات أخرى تعمل على القطع والتشويه للشكل الخارجي للسيدات، المرتبط أيضاً ارتباطاً وثيقاً بوجود الرجل في حياتها، وذلك عن طريق عملية الشلوخ، التي كانت تُجرى للفتيات أثناء الانتقال من مرحلة الطفولة إلى البلوغ، وهي عبارة عن جروح تُنحت على الخدود على جانبي الوجه، مع محاولات لإبرازها، لا التائمها، ويُقنعن الفتيات أن مثل تلك الجروح تزيد من جمالهن، وهي على غرار إقناعهن المسبق بجميع العمليات السابقة؛ لتكون بإرادة قوية منهن لقمع أجسادهن بأيديهن.

تطور قمع أجساد السودانيات

على الرغم من أن هذا الفيلم يوثق مجموعة ممارسات قمعية للنساء في أزمنة ماضية، راصداً تحولات كثيرة على يد نسويات فاعلات داخل المجتمع، فإنه خارج إطار هذا الفيلم ما زال هناك إلى الآن ممارسات قمعية على أجساد النساء، فحسب (شريكة ولكن/ صبا حسام - ديسمبر 2023) أُكِّد أن النساء السودانيات ما زلن مستغلات جنسياً عن طريق تعرضهن للاغتصاب المستمر من قوات الدعم، «فمنذ أن اندلعت الحرب بين الجيش الوطني السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، والنساء تواجه مصيراً تعساً بشدة من جديد. بين خيارين لا ثالث لهما، إما القتل وإما الاغتصاب والعنف الجنسي، وإما الاثنان معاً، بل في كثير من الأحيان يوثق المعتدي انتهاكاته ويتفاخر بها، دون أي أمل في النجاة».

مشهد من فيلم «أجساد بطولية»

يقول باتريك كاميرت، القائد السابق لشعبة الأمم المتحدة لشرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، واصفاً ما تتعرض له النساء في زمن الحروب والصراعات: «أن تكون امرأة في صراع مسلح ربما هو أخطر من أن تكون جندياً»، وهذا هو أدق وصف يمكن أن نصف به نساء السودان في الحرب. تلك المرأة التي أظهرها الفيلم مدركة حجم ما تتعرض له دائماً من قمعٍ، محاولةً التنفيس عن طريق طقس الزار السوداني الذي تجتمع فيه النساء كل فترة ليمارسن كل الأفعال الممنوعة داخل سياق المجتمع، من شرب النبيذ والسجائر والرقص، وأحياناً ارتداء ملابس الرجال، فقط من أجل شحن الطاقة ومحاولة الاستمرار في الحياة التي تنتظرهن لتأخذهن لما هو أصعب.

ليست السودان وحدها!

بالنظر في الممارسات التي عرضها أجساد بطولية نحو أجساد النساء نجد كثيراً منها يشترك مع بلدان أخرى، فالختان وعمليات تضييق المهبل في الثقافة المصرية عُرف موجود حتى لو مر عليه سنوات عديدة للضحايا، لكن من تعرضن له ما زلن موجودات بيننا، وبطبيعة الحال لم يتقصر الأمر عند تلك العمليات بصفتها أفكاراً يتبناها المجتمع، بل يتطور الأمر مثلما تطور في السودان، ليصبح قمع الحكومات لأجساد النساء هدفاً دائماً واجب التنفيذ، حيث أقام المجلس القومي للمرأة بمصر عقب حركة 6 أبريل 2008، دراسة توضح أنه قد تعرض 28 في المائة من النساء لعنف بدني عام 2009، وارتفعت هذه النسبة إلى 33 في المائة عام 2013، مع إشارة الدراسة إلى أن النسبة غير دقيقة، نظراً لرفض الكثيرات التصريح بما تعرضن له من عنف.

ووفقاً لكتاب ثقافة الحركات الاجتماعية الجديدة: مقاربات أنثروبولوجية، يُأكَّد على أن الانتهاكات الجنسية وكشوف العذرية والتحرش الجنسي «هي أدوات سياسية للقمع الذي يحول الجسد الأنثوي إلى ساحات معارك تدبر فيها المكائد، كما يمعن النظام الأبوي الذكوري في قمع الاحتجاج عن طريق أجساد النساء وترهيبهن».

يوم سيئ في صنعاء القديمة المستهدفة فكرياً

تلك السياسة المذكورة لا تختلف كثيراً عن اليمن، هذا البلد الذي تحقق به بعض من المطالب النسوية بعد استقلال جنوب اليمن عام 1967، حيث برزت الرابطة النسوية، بل كان لها تأثير كبير على سياسة الدولة حينها، فأسهمت النساء في صياغة تعميمات قانونية ترفع الحد الأدنى لسن الزواج، بل تشترط أخذ موافقة المرأة قبل الزواج، وتكفل حقها في الطلاق، وغيرها من المكتسبات الحقوقية، التي سرعان ما اختفت في عام 2014، وهي مدة زمنية غير كبيرة في عُرف التاريخ، حيث اتفاقات من الجهات الفاعلة السياسية بجانب الخطاب الديني على ضرورة كبح جماح النساء، وتعزيز فكرة تنميط الجسد الأنثوي في إثارة الغرائز، لتتحول النساء اليمنيات إلى أجساد تشكل تهديداً واضحاً على أمن وسلامة المجتمع اليمني، أدى في النهاية لتعرضهن لجميع أشكال العنف، من قتل وتعذيب واعتداء جسدي واعتقالات واستبعاد من المناصب العامة. وفقاً لما ذكرته ثريا دماج في مقال: حرب تمر على أجساد النساء، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية.

وظهر هذا التراجع بقوة عام 2005، وقت إصدار فيلم يوم جديد في صنعاء القديمة، إخراج بدر بن حارسي، الذي يعد أول فيلم روائي طويل باليمن. تكمن أهمية ذكره ليس فقط في مناقشة أشكال العادات والتقاليد الخاصة باليمن، وتحديداً صنعاء القديمة، والقيود المجتمعية والقمعية على النساء، بل في أثره أثناء عرضه في بلده، حيث اقتحم حينها مجموعات كبيرة من الرجال اليمنيين أماكن التصوير بصنعاء، للتعدي على طاقم العمل، وكذلك منع الأزواج نساءهم الممثلات من المشاركة في هذا الفيلم، بخلاف ما ناله جميع ممثلي العمل من سباب وعنف في الشوارع، كل ذلك بسبب بعض الشائعات التي أثارت جدلاً حول قصدية الفيلم في كسر قواعد المجتمع اليمني، والتأكيد على احتوائه مشاهد خليعة.

مشهد من الفيلم السوداني «أجساد بطولية»

الحجاب في إيران

قالت شابة إيرانية، حسب نظام الملالي والمرأة … موجة قمع جديدة ضد النساء في إيران: «تذكرت جينا مهسا أميني وغيرها من النساء اللاتي ضحين بحياتهن خلال انتفاضة (المرأة، الحياة، الحرية)، وقلت لنفسي إنه يتعين أن أتحلى بالقوة. لقد صرخت بصوت عالٍ بأن قواعد اللباس الخاصة بي هي من شأني الخاص. وبمجرد أن قلت هذا، بدأت عناصر شرطة الأخلاق بالتعدي عليَّ. نعتني الضابطات بالعاهرة، وجرى إبلاغي بأنه طالما أعيش في إيران، فإنه يجب أن أحترم قوانين البلاد، وتلك الجرائم التي تُرتكب يومياً في حق النساء الإيرانيات بسبب فرض الحجاب عليهن». واستكملت قائلة: «في تلك اللحظة، لم أستوعب ما يحدث حولي، لم أدرك سوى أنهم كانوا ينهالون عليَّ بالضرب ولم أرَ بعد ذلك كدمات على جسدي».

وربما يتماس هذا كلياً مع الفيلم الإيراني الدائرة، للمخرج جعفر بناهي، الذي يعكس بشكل كامل صورة المرأة داخل المجتمع الإيراني المنغلق، ومحاولة قمعها المستمرة، ذلك الفيلم الذي اختار مخرجه أن يكون مشهده الافتتاحي صوت امرأة تصرخ أثناء عملية الولادة مصاحباً لشريط الصوت صورة ظلام دامس، تأويلاً واضحاً نحو البلاء المنتظر لهذه الابنة الجديدة، ثم بظهور الشخصيات، ينتابها القلق مع نبأ ولادة ابنة/ أنثى، فالأم كانت تنتظر ولداً، فهي مهددة بالطلاق، ليكون المشهد الافتتاحي هو خير مُدلل على الوضع الذي تحياه المرأة داخل المجتمع الإيراني منذ الولادة، ثم في أحداث الفيلم نفسها التي تدور حول سبع نساء قررن اختراق القانون ليكون المصير المنتظر هو السجن، ومحاولات من القمع والإقصاء المستمرة، التي لا تختلف عن الواقعة المذكورة وغيرها في شيء.

وحتى خارج المجتمع الإيراني، فمثل هذه المشاهد المقروءة بين صفحات الأبحاث والمقالات تذكرنا أيضاً بمشهد في فيلم السباحتان، للمخرجة سالي الحسيني، الذي يقدم حياة أسرة سورية، عندما ضحكت فتاة من تلك الأسرة في المواصلات العامة أمام واحد من القوات، قام بالتحرش بها فوراً كي يقمع ذلك الصوت ويسكته إلى الأبد.

مشهد من نفس الفيلم «أجساد بطولية»

وعلى ذكر الأفلام لا يسعنا إلا أن نعود إلى أجساد بطولية من جديد، وذلك التاريخ الطويل من النضال الذي ربما أثمر عن نتائج جيدة، لكن هذا لا يعني زوال القمع، لا في السودان أو غيرها مما ذُكر أو لم يُذكر، حيث دائماً ما يمثل السلوك الاحتجاجي للنساء أداة لنقل رسائل نحو تمردها داخل المجالين الخاص والعام معاً، ومنها تكون أجساد النساء أهدافاً للسيطرة الاجتماعية، فوجود الجسد الأنثوي نفسه هو أداة لتفكيك الأنظمة الأبوية، ومقاومة لتصورات النوع والتوقعات غير الصحيحة عنه التي تكبله من ساحة المجالات العامة، بل عندما يكون التعبير عن احتجاج النساء عن طريق أجسادهن سواء بحضورهن الجسدي، أو أشكال الاعتراض من كسر قواعد الملابس أو رفض العنف الجنسي، هذا يشكل خطراً أكبر، يصيب الأنظمة السياسية الأبوية بندية شديدة تجاهه، ومنها لمحاولات قمع الاحتجاجات بأشكالها كافة، عن طريق قمع الجسد نفسه وتشويهه وفقاً للعرف المجتمعي، وكذلك بوقائع عنف جسدي وجنسي.

# السينما السودانية # سينما # فن

فيلم «دخل الربيع يضحك»: موسيقى الحياة اليومية
My Favourite Cake: الحياة كعكة ساخنة في انتظار رفقة
بين الحزن والانتظار: فيروزية المشرق ومشرقية فيروز

فن