«إسبانيا أشبه برجل لا يتسامح، يكرس نفسه لفن الجرح الذاتي، ويلتزم بأعمال القسوة ضد نوعه في كثير من الأحيان».
چان موريس الكاتبة والمؤرخة البريطانية
في كتابه، «موربو: قصة كرة القدم الإسبانية»، زعم المؤلف الإنجليزي فيل بول أنه لا يمكن النظر لكرة القدم الإسبانية دون مواجهة ما تعنيه كلمة «Morbo»، التي لا يوجد لها مكافئ في أي لغة أخرى، لكنها تعني باختصار مخل: المرض.
طبقاً لبول، يوجد كثير من الأمراض في المجتمع الإسباني، أحد هذه الأمراض هي العلاقة المعقدة ما بين إقليم الباسك وإسبانيا، التي نتج عنها أحد أكثر الأندية تفرداً في العصر الحديث: أتلتيك بيلباو. ليس لأنه الأفضل أو الأسوأ، لكن لأن من خلاله يمكن النظر لأكثر الروايات رومانسية بمزيد من الموضوعية. فما القصة؟
«أتلتيك بيلباو أكثر من مجرد ناد لكرة القدم، إنه شعور. وبالتالي فإن طريقة عمله غالباً ما تفلت من التحليل العقلاني. نحن نرى أنفسنا فريدين في كرة القدم العالمية وهذا يحدد هويتنا. نحن لا نقول إننا إما أفضل أو أسوأ من الآخرين، بل نحن مختلفون فقط».
خوسيه ماريا أراتي رئيس نادي أتلتيك بيلباو السابق
طوال أكثر من قرن التزم أتلتيك بيلباو الإسباني بسياسة تعاقداته الفريدة، إذ يحق للاعب الذي ولد أو نشأ في إقليم الباسك فقط تمثيل الفريق. ويشمل إقليم الباسك مقاطعات: بيسكاي، غيبوثكوا، ألاڤا وناڤارا في إسبانيا، بجانب لابورد، سول وناڤارا السُفلى الفرنسية.
امتلك أسلاف سكان إقليم الباسك إحساساً بالتميز عن إسبانيا، كما كتب عنهم عالم اللغويات الألماني فيلهلم فريشر فون هومبولت بمطلع القرن الـ19: شعب الباسك هو شعب مخفي بين الجبال، حافظ على لغته القديمة وعاداته، شعب تمكن من إبعاد نفسه عن وجهة نظر المتفرج وسيف الفاتح.
بالطبع، لم يستمر هذا الانغلاق طويلاً، في منتصف القرن الـ19، كان خليج بيسكاي شاهداً على ثورة إسبانيا الصناعية المتأخرة، إذ عرفت إسبانيا كرة القدم عن طريق المهاجرين البريطانيين، أو أبناء الطبقة المتعلمة من الباسك الذين ذهبوا إلى الجزر البريطانية لدراسة الهندسة المدنية، ثم عادوا ومعهم كرة القدم.
حتى الآن، لا توجد وثيقة توضح الوقت الذي تم فيه اتخاذ قرار تطبيق فلسفة النادي القائمة على التعاقد مع لاعبين ولدوا أو نشأوا داخل إقليم الباسك، لكن مع ذلك، يدعي المؤرخان چون ريڤاس وچوسو تورزيتا أن تطبيق هذه السياسة لأول مرة لم يكن مرتبطاً بالولاء للإقليم بل بسبب ظروف تاريخية.
بحسب وجهة نظرهما، في بداية القرن الـ20 وضع الاتحاد الإسباني قواعد مُشددة أعاقت التعاقد مع لاعبين أجانب، إضافة لتجنيد اللاعبين البريطانيين للمشاركة في الحرب العالمية الأولى، بينما كان التعاقد مع اللاعبين الإسبان من غير الباسك بلا معنى؛ لأن الإقليم في ذلك الوقت كان بالفعل يمتلك أفضل لاعبي كرة القدم الإسبان.
لا يرى الباسك أنفسهم إسباناً، يمكن بكل سهولة التأكُّد من ذلك بمجرد التجوُّل في شوارع مدينة بيلباو أثناء لعب منتخب إسبانيا. ستجد أعلام الإقليم، أو أعلام فلسطين تتدلى من الشرفات، بينما يظهر علم إسبانيا فقط على المباني الرسمية.
منذ مطلع القرن الـ20، أصرت حركات قومية باسكية على دولة باسكية منفصلة، قوبلت الحركات بقمع صريح من الجنرال فرانكو الذي قام خلال الحرب الأهلية الإسبانية بمنع استخدام اللغة والأعلام الباسكية كما قام بقصف أكبر المدن الباسكية.
يعتقد الكاتب الإنجليزي فيل بول أن نادي أتلتيك بيلباو كان مسرحاً لتحقيق أحلام الباسك القومية. وكانت لحظة قصف مدينة غيرنيكا الباسكية وقوداً يدفع القوميين من سكان الإقليم لتحقيق هذه الأحلام.
كانت علاقة أتلتيك بيلباو بالحزب القومي الباسكي قوية جداً، فمثلاً كان خوسيه أنتونيو أجيري، أول رئيس للحكومة الباسكية، لاعباً لأتلتيك بيلباو، وهو الرجل الذي لقي حتفه أثناء قصف غيرنيكا. طبقاً لبول، أدت حقيقة أنه لاعب سابق لبيلباو إلى تغذية الرواية السياسية للنادي. بالتالي أصبح الرؤساء المتعاقبون مضطرين للانتماء إلى الحزب، وما يتبناه من موقف تجاه كل ما هو غير باسكي.
في 2010، قام فرناندو جارسيا ماكوا، رئيس أتلتيك بيلباو، بإرسال دعوة مجانية لكل تلاميذ مدارس إقليم الباسك لزيارة متحف النادي، مختتماً الدعوة بعبارة: لأننا جميعاً ننتمي لأتلتيك.
أحد العوامل التي يمكن من خلالها فهم تفرُّد أتلتيك بيلباو كفريق هي علاقة النادي بالأندية المجاورة في الإقليم؛ لأنه للمفارقة ليس فريقاً مُضطهداً على طول الخط.
الرسالة أعلاه، كانت مجازاً يوضح رؤية المنتمين لأتلتيك لجيرانهم، فالسبب الحقيقي وراء استمرار بيلباو بسياسة تعاقداته القائمة على تطوير الشباب المحليين هو إنهاء النادي لما عرف بمبدأ حسن الجوار، إذ قام مسئولو بيلباو تباعاً بتحوير فلسفة النادي، فبعد أن كانت تقتصر على تمثيل الفريق عبر لاعبين ولدوا في بيسكاي، امتدت لتجور على كامل الإقليم، بما فيها غيوبثكوا التي تعد الفناء الخلفي الذي يلتقط منه ريال سوسيداد مواهبه، لكن ذلك لم يعد ممكناً، لأن بيلباو هو أغنى أندية الإقليم، بالتالي الأحق بالظفر بأفضل المواهب.
يرى خوان إليجالدي، عضو مجلس إدارة أتلتيك بيلباو السابق، أن سياسة تعاقدات النادي دائماً ما تتم إعادة تفسيرها على النحو الذي يناسب وضع النادي؛ ففي البداية كان التعاقد مقتصراً على أبناء منطقة بيسكاي، ثم شمل باقي الإقليم، ثم في السبعينيات بدأت عملية «Retorno» التي سُمح بموجبها بدمج اللاعبين الذين ولدوا خارج الإقليم لكن نشأوا فيه بتمثيل الفريق.
في أكتوبر 2023، طلبت مجموعة من أعضاء الجمعية العمومية لنادي أتلتيك بيلباو وضع تعريف واضح لمعنى النشأة داخل إقليم الباسك الذي يصبح اللاعب من خلاله مؤهلاً لتمثيل الفريق، لأن تحوير المعنى أدى طبقاً لهم إلى الغش في 51 حالة للاعب، لم يكن ينبغي أن يسمح لهم بالمشاركة مع الفريق بحسب فلسفة النادي المتبعة. لكن بحسب الصحفي الإسباني جون أجريانو، فإن فتح أي مناقشة حول فلسفة النادي محرمة داخل بعض الدوائر.
«ترك النادي أشبه بالتخلي عن شركة العائلة التي بدأها جدك».
— جوسو يوريتيا رئيس أتلتيك بيلباو
بالطبع، تنشأ علاقة قوية جداً ما بين اللاعب والنادي والجماهير؛ لأن النادي على الأقل ظاهرياً يعمل ككيان رياضة وليس كمؤسسة تجارية، يهدف لتخريج أجيال من اللاعبين منسجمة تماماً مع أيديولوجية الأجداد المؤسسين للنادي، أياً ما كانت النتائج المترتبة على ذلك.
يعتقد عادة أن اللاعب الباسكي أكثر انتماء من غيره، لكن هذا الاعتقاد يبدو ناقصاً، فبغض النظر عن عديد الأسماء التي رحلت عن أندية الباسك بحثاً عن فرص رياضية أفضل، يلعب مسؤولو النادي الباسكي على وتر حساس جداً وهو وتر الشعور بالذنب.
يرى چوسو يوريتيا رئيس النادي، أن جميع من في النادي يحاول غرس الانتماء داخل اللاعبين الشباب منذ دخولهم للأكاديمية، لكن أيضاً يستخدم المسؤولون حيلة أخرى وهي تذكير اللاعبين أنهم لم يكونوا ليحصلوا على فرصة لعب كرة القدم الاحترافية إلا بسبب سياسة النادي القائمة على استخدام لاعبي الإقليم فقط، لأنهم بالفعل ليسوا الأفضل، بل يمكن الوصول لمن أفضل منهم إذا ما قرر النادي إلغاء فلسفته والتسوق حول العالم.
ربما هكذا يمكن أن نفهم قصة أتلتيك بيلباو، بعيداً عن القصة الرومانسية التي تصوِّر نادي كرة قدم وكأنّه الخير المطلق، وأن من سواه يمثل الشر. لأن الحقيقة تكمن في مساحة ما بين هذا وذاك.
# كرة القدم العالمية # كرة القدم الإسبانية # الدوري الإسباني # رياضة # كرة قدم