في سن العاشرة، فُزت بأكبر اعتراف منزلي بفردانيتي، سُمح لي أخيرًا بمساحة فارغة على حائط غرفتي التي أتشاركها مع أخي الأكبر، مساحة تخصني وحدي، تنتظر المُلصق الخاص بي.
زين أخي غُرفته بمُلصقات نجوم الكرة، يُجاورهم نجوم الفن والغناء، أبرزهم مُلصق «علم قلبي» ألبوم عمرو دياب الأحدث وقتها. كنت قد فُزت للتو بفردانيتي لكنني لم أعلم بعد ما أُحبه. فتشت في صناديق أبي المُكدسة في الشٌرفة بحثًا عن إلهام من شبابه القديم، عندها وجدته.
مُلصق باهت لفتى وسيم يرتدي سُترة جلدية ضيقة ويُدخن لفافة تبغ بلا اكتراث بينما يستند بيده على دراجة بخارية، جسده مُسترخٍ بينما نظرته الواثقة توحي بأنه يرى نهاية طريقه قبل حتى أن يضغط على دواسة الوقود، على ظهر المُلصق كُتب بخط أبي :جيمس دين.
عندما سألت أبي عنه أخبرني أنه نجم هوليوودي توفي في شبابه نتيجة حادث مروري مأساوي.
ظلت مساحة الحائط فارغة لسنوات، تُعبر عن صبي لم يكتشف كينونته بعد، لكنني اختلست مُلصق جيمس دين من صناديق أبي ليصير جزءًا من ذكريات صباي المُكدسة في أدراج مكتبي. افتتنت بنهايته، تبين لي أن الفتى كان يستند لدراجته البخارية وينظر بثقة إلى أقسى وجهة مُمكنة، الموت، والأدهى أنه لم يكن مُباليًا، كأنه أيقن أنه سيحيا بطريقة أبدية ما تُجاوز هلاكه.
الثورة طوفان يجرف كل مُعتاد، حتى قائمة الأغاني التي اعتدتها، في أيام الثورة الأولى استعاد الجميع أغاني قديمة خلقها أناس عايشوا الحالة الثورية ذاتها، في أسابيع قليلة عرفت الشيخ إمام ونجم، بجوار أغاني الأندرجراوند التي أعلنت بظهورها عن ذوق جديد لم يوصم بعد بكونه ثوريًا. ضمن موجة الاستعادة لثوريات الماضي، استمعت لأول مرة لأغنية «رصيف نمرة 5» وقررت مُشاهدة الفيلم الذي يحفظ نُسخة من «عمرو دياب» لم أعرفها أبدًا.
كان «آيس كريم في جليم» ساحرًا من النظرة الأولى لأسباب يصعب شرحها سينمائيًا، بالنسبة إلي كان مُزاوجة سحرية بين فردانية أبي وأخي. عمرو دياب يرتدي ثياب جيمس دين في المُلصق القديم ويستند على الدراجة البخارية ذاتها، ويمتلك النظرة الغامضة ذاتها الواثقة من دون سند في وجهتها وفي أبدية بقائها.
مارس 2024
عندما طُلب مني كتابة مقال عن فيلم كلاسيكي، اقترحت الكتابة عن أفلام «صلاح أبو سيف» و«حسين كمال»، عندها أخبرني مُدير الباب بلُطف أن الصبغة الكلاسيكية تمتد للتسعينيات. كنت أمتلك حيلة دفاعية دومًا ضد السن، أنا ولدت في التسعينيات، حقبة كانت دومًا قريبة لكنها باتت الآن كلاسيكية، تبعد عنا ثلاثين عامًا وأكثر. نظرت إلى جدران غرفتي وجدتها فارغة من المُلصقات، تحرس المُلصقات نُسخًا من أبطالنا وأمنياتنا، وصورة كينونتنا التي تتشكل ببطء، يصعب أن يمتلك رجل ثلاثيني جاد هوسًا بالمُلصقات.. كيف لرجل ثلاثيني أن يكون لايزال عالقًا في سؤال الكينونة دون إجابته بعد؟
أول ما فتنني في «آيس كريم في جليم» كانت الحياة التي دبت في مُلصق أبي القديم، وأول ما أثار انتباهي أن بطلي الفيلم «سيف» و«بدرية» يمتلكان هوسًا بالمُلصقات. يمتلك سيف الذي يتوق لتغيير زمنه بأغنياته، مُلصقاً لألفيس بريسلي الذي غير عالم الغناء بتجربته، وتمتلك بدرية التي عانت في طفولتها الفقر والجوع وكبت رغباتها، مُلصقاً لمادونا، أيقونة الغناء والإغراء التي مارست أنوثتها بطغيان لا يعرف كوابح. شخوص لا تمتلك كينونة بعد، لكنها تمتلك توقاً لعالم يجبر نواقصهم، عالم لا يُعبر عن ذاته إلا في الصور. ملصق بطله فنان يرشدهم لما يُمكن ولما يجب أن يكونوه.
اختار «خيري بشارة» أن يصنع فيلمًا عن فنان حالم في عالم غائم، أضواؤه نيون، ولافتاته استهلاكية تُعزز الاغتراب أضعاف ما تُعزز الأحلام، فنان لا يُنقذه من التماهي مع هذه الخلفية إلا سُترة جيمس دين. سترة منيعة ضد الواقع، سترة تمتلك غواية الأحلام، ولكن لماذا جيمس دين؟
متمرد بلا قضية
«احلم كأنك ستعيش أبداً، عش كأنك ستموت غداً»
جيمس دين
كان «جيمس دين» طفلاً من إنديانا، لا يمتلك سوى صديق واحد، هو أمه التي ماتت بالسرطان وهو في سن التاسعة، عندما أراد خلق الصداقة من جديد مع أبيه، فوجئ به ينفيه بسُلطته الأبوية القاسية ليحيا مع أقاربه على بعد 2000 ميل، ليتفرغ الأب لمتابعة مسيرته المهنية.
يقول الممثل «مارك ريدل» أن غياب الأب كان فجوة في روح دين لم تلتئم أبدًا، خلقت فتى مُتمرداً على كل القواعد الأبوية، لم يُطع دين أوامر مُخرجيه، كان يتمرد حتى على سطور النص ومواعيد التصوير ورؤية السيناريو، وفي كل مرة لم يجرؤ مُخرج على تأديبه، كان أداؤه أفضل بكثير من النص المكتوب.
Rebel without a cause
في ثلاثة أفلام فقط، علم «دين» كل ممثلي هوليوود كيف يُعيدوا تدوير آلامهم الشخصية لتظهر على الشاشة، في حياته لم يكن مُكترثاً بالمال أو الشهرة، كان يسابق الزمن بدراجته البخارية فراراً من أي تأطير لأسطورته، كانت السينما وحسب وسيلته للتعبير عن آلامه والهروب بكبرياء من فكرة أن تُنسب تلك الآلام له إنما لشخوصه، يتوق لأبيه ويتمرد عليه على الشاشة كما تمنى دوماً أن يفعل مع والده الحقيقي.
عندما مات دين كان شاباً في الرابعة والعشرين، «متمرداً بلا قضية» مثل عنوان فيلمه الشهير، مات دون أن يبلور كينونة بعد، حوله ذلك إلى أسطورة خالدة لكل إنسان يُريد التمرد.
ارتدت الأجيال الأمريكية الشابة التي عادت من الحرب العالمية الثانية جينز دين وثيابه ليتمردوا على عالم ما بعد قنبلة هيروشيما المخيف، ارتدى أبي ثياب جيمس دين ليُعبر عن جيل ناصري شاب يثور لأول مرة ضد الإمبريالية والاستعمار. كان جيمس دين صالحًا لكل الأزمنة.
لم يحيَ دين ليصل لمرحلة الكهولة وهذا جعله فكرة شابة لا تموت، لا يُستدعى إلا بصورته الشابة لكل من أراد التمرد على الأبوة بكل سلطاتها وإملاءاتها القديمة، صار دين تمثالاً دائماً لعبارة غرامشي الشهيرة التي تبشر بعالم قديم مات وعالم جديد لم يولد بعد
حفظ موت دين المُبكر كل مُمكناته من أن تُبتذل، صار فكرة أو مُلصقاً يمكن أن يستعيره أي إنسان بوصفه وجهاً لتمرده وثورته، ولم يكن خيري بشارة استثناءً
نبوءة فنية بعالم جديد لم يولد بعد
في عام 1990 قدم بشارة فيلمه الشهير «كابوريا» ليُعلن تحرره أخيراً من ذوق أفلامه الأولى المُخلصة لعصرها، لأحلام الواقعية الاشتراكية، وجيل يساري يقاوم الانفتاح الذي يبتذل خصوصية جيله وحلمه وتجربته.
خلقت التجربة الاشتراكية المصرية ديكتاتورية سياسية مُخيفة بوصفه ثمناً للحلم، لكن ما أرعب بشارة أنها خلقت ديكتاتورية شخصية بداخله ترفض أن يتحرر من أفلامه السابقة الناجحة لخلق أفلام يُحبها، أبطالها شخوص أكثر فردانية وإخلاصاً لرؤاهم الشخصية من رؤى عصرهم الكبرى. بدا بشارة لكثيرين خائناً لموجة الواقعية الجديدة، مُتنصلاً منها بحثاً عن خلاصه الفردي والتجاري من ثقل السردية الكبرى لجيله
بعد «كابوريا» بعام، انهار الاتحاد السوفييتي، الكيان الذي خلق دوماً فكرة أخرى للعدالة الكونية وإدارة للعالم بديلة عن الهيمنة الأمريكية، بشر العالم الأمريكي «فوكوياما» بنهاية التاريخ، وكانت النهاية أمريكية وكان انتصارها هوليووديًا.
لم تعد توجد مظلة عالمية تحمي أحلام التحرر الوطني من الهيمنة الأمريكية، لم يكن بشارة بتحوله الفردي خائناً إنما مُتنبئاً بعصر قديم يموت، لم يعد على شخوصه القادمة أن تحمل عبء إنقاذ حلم ميت، عليها التبشير بفردانيتها في عالم جديد لم يولد بعد.
مثلما كان «دين» الفنان وجهًا لجيل ما بعد الحرب العالمية، وعالماً بات بقاؤه يقترن بفنائه في زمن الحرب الباردة والتسلح النووي. قرر بشارة أن يُعبر عن لحظة اللايقين التي يحياها العالم ومصر وقتها بأكثر وجوه فنانيها شباباً، عمرو دياب، الفتى الذي تحتل مُلصقاته بيوت المراهقين المصريين مثل ابنته «ميراندا».
كان لزاماً أن يكون وجه الفيلم مُحبباً يسهل أن يُعلق عليه المتلقون الشباب آمالهم وأحلامهم، وكان لزامًا أن يكون مُناسبًا لأن يرتدي رمزية بشارة وهي سترة دين، الفتى المتمرد الذي يُبشر بعالم لم يولد بعد. لكن لا مجال للوجود فيه إلا بالتمرد على ما سبق.
حلم يُشبه السباحة في الضوء
عندما سأل مدير التصوير «طارق التلمساني» المُخرج، ما هو طابع الصورة لفيلم آيس كريم في جليم، أجابه بشارة بجملة شعرية مُرهفة: حلم يٌشبه السباحة في الضوء.
يحيا سيف في جراج متواضع بالمعادي، غرفة حقيرة لكنها مُزينة بديكور ومُلصقات المُطربين الأمريكيين الذين يعشقهم مثل ألفيس بريسلي، يرتدي سيف ملابس مُمثله الأمريكي جيمس دين، يهرب من زمنه وعالمه على متن الدراجة البخارية، بينما السماعات في أذنيه تُعزز انفصاله عن الواقع بالخيال.
تؤطر تلك الحالة الحالمة أضواء النيون لمطاعم الوجبات السريعة ومحال الفيديو والكاسيت، يبدو شارع 9 في المعادي مسرح الأحداث لوهلة جزءًا من عالم «وانغ كارواي» حيث مدينة عالمية بأضواء النيون تُشبه هونج كونج وتايوان ونيويورك، مدينة مُعولمة بصبغة أمريكية، صبغة المنتصر الذي صنع مدن العالم على صورته.
لا يبدو تمرد «سيف» عدوانياً أو ساخطاً إنما تمرد طفولي يُحب الحياة بمراوغة قواعدها، يأكل آيس كريم في برد ديسمبر القارص، يختلس مُضاجعة غرامية سرية مع عشيقته في الجراج الذي يُمثل آلة زمن نيويوركية يسهل معها أن تنسى حي الضاهر الذي تعيش فيه وأكواده الأخلاقية الصارمة.
شخوص بوحها غناء
يقول خيري بشارة إنه نشأ في أسرة تُحب الغناء ويمتلك أفرادها مثل أمه وأخته صوتاً شجياً يُعبر عن تلك العاطفة، لم يرث بشارة من أسرته جمال الصوت لكنه ورث عشق الغناء بوصفه أداة تعبر بها شخوصه دوماً عن عواطفها.
تساهم الصبغة الغنائية في آيس كريم في جليم في تعزيز حالة الحلم، تلجأ الشخوص كلها للغناء والموسيقى للتعبير عن هواجسها. يسير سيف مُنتشياً بهالة جيمس دين بينما يجذب مظهره الفتيات ليتمايلوا بغناء خيالي -لن يحدث في الواقع أبداً- يتغزل في صورة الفتى الوسيم.
يجذب الغناء الفتيان الغيورين لمهاجمة سيف، لكنهم قادمون بأزياء عالم جيمس دين الجلدية، قادمون بآلة زمن من فيلم أمريكي في الخمسينيات، لا تدرك هل يتخيل سيف ظهورهم أم أنهم شباب عاديون عندما اقتحموا حكايته ألبسهم أزياء الأعداء في أفلام دين ليناسبوا صورة العدو في خياله.
يمتلك سيف دوناً عن شخوص الحكاية القوة الكافية ليصبغ الواقع بمادة أحلامه وصوت أغانيه، بينما عشيقته بدرية تعبر بالأغاني عن خوفها من هشاشة فقاعة الحلم التي تحياها مع سيف، تؤكد أنها أكثر عادية من تلك الأحلام، وستستيقظ يوماً على واقع كابوسي هي فيه فتاة أكبر سناً تعمل في محل رأسمالي عالق بين القاهرة والإسكندرية، مثلما هي عالقة بين الحلم والواقع، محل يبيع عطوراً وثياباً باهظة تعرضها يومياً ولا تملك ثمن واحد منها، تقول:
أنا بنت عادية لا عايزة أمير ولا حد يلومني
إن سبت حبيبي، مانا أصلي فقيرة وهو فقير
يخرج غناؤها مكسوراً بلون مخاوفها، بينما تستعير أمها مادة الغناء ذاته لتغني في الشرفة ساخرة من سيف وأحلامه، يخرج غناء الأم بلون المرارة، يجذب المستمعين من شوارع الضاهر، لا يطربون لصوتها إنما يبدو عرضاً للجنون الغرائبي أكثر من كونه عاطفة مُنعشة.
يؤطر الجميع بغنائهم عاديتهم وطبيعة عالمهم، بدءاً من عشيقة سيف وصولًا لمدير أعماله «زيكو» الذي يُخبره أنه يحمل براءة تُذكره بإيماناته القديمة لكنها لا تناسب زمنه، عليه أن يرتدي صورة عصره ويلعب بقوانينه:
افهم أصول اللعبة ومتبقاش غبي
خليك شيطان والبس ملاك
تكسب كتير على مذهبي
يتمسك سيف بالغناء بوصفه لغة للتمرد بينما يحولها من حوله إلى لغة لمهاجمة سذاجته وتكريس واقع يكرهه.
لا يستعير «سيف» بسترة جيمس دين ومفردات عالمه كينونة ساذجة أو زائفة، إنما يستعير رمزية لفردانيته، يتمرد سيف على زمن معولم يفغر فاهاً لابتلاعه، مثلما تمرد جيمس دين على كل سرديات زمنه لكنه لم يسطر بعد سردية تخصه.
يقول سيف لصديقه إنه لا يحب الأغاني الغربية لأنها تشبهه إنما لصدق أصحابها في التعبير عن عواطفهم وفردانيتهم، لا يُريد سيف أن يحيا في نيويورك أو أن يكون جيمس دين إنما يُريد أن يستعير صبغة عصره الهوليوودية ورموزها ليجد الطريق نحو قصته الحقيقية. يستعير سيف ثياب دين فقط ليتخذ موقفاً جمالياً فردانياً من عالم ينفتح على مصراعيه أمامه، بممكناته وتهديداته.
يُعبر سيف عن فردانيته التي يوقن بوجودها لكنه يعجز عن إيجادها، برمزية فتاة جميلة ذات شعر ثائر ظهرت يوماً في متجر آيس كريم في جليم، ومن يومها سكنت أحلامه، عجز دومًا عن إيجادها، لكن حضورها في أحلامه كان إلهاماً دوماً ليستمر في البحث.
أمير ساذج في حكاية واقعية
يقول جيمس دين أنه لم يحب في حياته سوى كتاب الأمير الصغير لأنطوان إكزوبري، الذي يدور حول أمير من كوكب آخر، يرى العالم بدهشة طازجة بينما أنظار من حوله مثقلة بالاعتياد، كان هذا الكتاب إنجيل جيمس دين الخاص الذي بشر به بعالم جديد لم يولد بعد لكنه يستحق التمرد على القديم.
يوقن «خيري بشارة» أن حبكته أقرب للسذاجة، وأن حوارات أبطاله أحياناً في الفيلم رديئة حد الابتذال، يُخبر عمرو دياب في مشاهد كثيرة أن يتحدث مع أصدقائه بطبيعته ولا يبالي بما يتولد عن تلك العفوية، يخبره أن يستدعي تجربة تهجيره القديمة من مدن القناة إلى القاهرة والعالم الذي تركه هناك ليعبر به سيف عن هجرته من جليم إلى المعادي. مثلما غذى جيمس دين شخوصه من تجربته الخاصة.
تُناسب سذاجة الحبكة والحوار حالة الحلم التي يُريد فيها أن يؤطر عمرو دياب بوصفه أميراً صغيراً قادماً من عوالم الحلم والدهشة برسالة لا توجد إلا في الأغاني، مثل نبي جاء ببشارة تاهت كلماتها، عليه فقط إيجاد الكلمات المناسبة لتعبر عن رسالته.
تنويع بارودي عن ذات قديمة
«عندما تموت هذا العام فإن الموت سيتجنبك العام القادم»
ألبير كامو
عندما يدخل سيف السجن يُقابل الشاب الشيوعي نور، الذي يفتتح حديثه معه بهذا الاقتباس من أدب ألبير كامو الوجودي.
يُصادق سيف الشاعر الشيوعي الذي يمنح نبوته الناقصة مدد الكلمات، يُغني سيف كلمات ثورية يؤرخ بها المخرج للحظة عصره، مصر التي خرجت للأبد من الحلم الاشتراكي وصارت دائنة لدى نادي باريس الذي يعد بتسديد الديون مقابل عمولة على كل شيء.
يمنحنا بشارة تنويعاً بارودياً عن نفسه، يُخبرنا كيف كان يُمكن أن يُخرج هذا الفيلم لو انتمى لحقبة أفلامه القديمة، يُمارس الشاعر نور الديكتاتورية التي مارسها بشارة على أفلامه سابقاً، يسجن سيف في حلمه وكلماته. حتى يتحرر سيف ويُخبره أخيراً أنه يُريد أن يُغني عن نفسه، عن الفتى الذي يُحب الجينز ويكره البدلة، والذي يعد أكل المثلجات في الشتاء أكثر أفعاله ثورية. ينسلخ سيف بخفة من الأحلام والسرديات الكبرى التي يعتنقها الشاعر نور والملحن زرياب العجوز
يقتل بشارة طغيان تجربة عصره على فردانيته، ولكنه يقتلها برقة، لأنه يقتل نسخة قديمة من نفسه، نُسخة أحلامه الأولى، تموت في صورة زرياب الملحن الماركسي العجوز الذي يُشبه وجهه مُلصقاً دعائياً لكارل ماركس بلحيته وشعره الثائر.
يموت زرياب العجوز على مقعد حديقة في فجر يوم صحو بعدما مارس الحُب مع غانية، يُعلن في وصيته الأخيرة حبه للحياة والموسيقى وكرهه لسجون الألفاظ واللغة التي جعلته يتيه في الأيديولوجيا ومصطلحاتها عن جوهر الحياة الحقيقي وهو الحب ببساطة.
ينعي سيف ملحنه القديم بلطف بينما ينهار نور لأن موت زرياب يعني موت الأحلام التي آمن بها، في اللحظة التي وجد فيها سيف فردانيته، فقد نور الشاب إيماناته القديمة، يصرخ نور في الشوارع اللامبالية بموت معلمه القديم، يغلف بشارة ذلك الإدراك القاسي برحمة، تُذكرنا بتعبير كامو الذي بدأ به نور ظهوره:
«عندما تموت هذا العام فإن الموت سيتجنبك في العام المقبل»
أن تموت أوهامك اليوم وأنت شاب، خير من أن تحيا فيها وقتاً أطول يستهلك عمرك كاملاً، كان موت زرياب منقذاً لنور وإن لم يُدرك ذلك، أراد بشارة أن يرسخ بفيلمه موت التجربة التي يُريد جيله إحياءها بالنوستالجيا دون النظر للحظتهم الراهنة
ينجح سيف بعد مراوغات طويلة لنسخ مزيفة من نفسه في إيجاد ذاته الحقيقية، في المشهد الأخير ينفض عن نفسه العكاز المزيف في إشارة لكل الكينونات التي استند إليها لعجزه عن إيجاد حقيقته.
يبدو أخيراً مثل نبي وجد كلماته، يغني بفردانيته وحدها، في لوحة صيفية تخلو من أضواء النيون الليلية والحالة الحلمية التي بدأ بها الفيلم، لوحة صيفية شمسها ساطعة، ليبشر في أغنيته عن: عالم لن يألفه اليوم لكن سيألفه غداً.
مثلما منح جيمس دين بموته المبتور أبدية لم تُختبر أبداً لممكنات التمرد لديه، رسخ سيف بهذا السطر نفسه رمزاً لكل جيل شبابي جديد يأتي بما لم يألفه زمنه. بينما تنظر له بدرية عشيقته القديمة، مثلما بكت على سخرية أمها من أحلام حبيبها، تبكي مُجدداً على كفرها بأحلام حبيبها التي وجدت أخيراً كلماته مؤمنين وأتباعاً.
كيف تتحول حالة سينمائية إلى عود أبدي؟
يناير 2023
عشرات الشباب من جيل زد يدخلون سينما زاوية لتجربة مُشاهدة «آيس كريم في جليم» بقاعة السينما.
لا يزال عمرو دياب يُمثل لهذا الجيل الأصغر سناً رمزاً غنائياً حاضراً، لم يعد يشبه كثيراً «سيف»، على الرغم من كل الصدق الذي أفرد بشارة مساحاته لعمرو دياب، لم يكن سيف إلا نُسخة بشارة ورؤيته لفنان يبحث عن خلاص فردي في عالم معولم لم تتضح ملامحه بعد.
يحيا «عمرو دياب» نقيضاً لنبوءة بشارة عن الفنان الذي يُمكن أن ينجو بفردانيته من قوانين عصره، يبدو «عمرو دياب» أقرب بروحه لوصية «زيكو» مدير الأعمال الرأسمالي الذي نصح سيف أن يهتم بصورته بوصفها مذهباً وأن يلعب بقوانين عصره لينجو.
في أحد مشاهد آيس كريم في جليم ينتحي المنتج جانباً بسيف، يخبره أن كلمات أغانيه لا تهم، ما يهم هي صورته، يستنكر سيف كلماته ويُغني في النهاية بملابس مضحكة لا تهم، لكن ما يهم حرية كلماته
يحيا عمرو دياب نقيضاً لسيف، في العقود الأخيرة يستثمر في صورته الشابة أضعاف ما يستثمر في الموسيقى التي تُشبهه، يجتهد عمرو الستيني لتمثيل أجيال يبتعد عنها بفجوة ثلاثين عاماً على الأقل. يبدو سلعة رأسمالية تقاتل للبقاء وليس فناناً يبحث عن أصالة، يحقق نبوءة الشاعر نور وأغنيته التي لم يغنِها سيف في الفيلم:
يامدينة بكرة اسمي
هيملا
أضواء نيون الإعلانات
والسعر أنا
في بداية الثورة، قدم فريق «كايروكي» أغنية مطلوب زعيم، التي تُشبه صرخة ثائر يبحث عن شخصية أبوية ترعى حلمه الهش، تبعتها أغانٍ ثورية تهاجم السلطة الأبوية بكل صورها وتلعن عجز الأجيال السابقة.
بعد عقد من هزيمة الثورة، سيُقدم «كايروكي» أغنية «جيمس دين» التي تقول كلماتها:
أنا وهي جينا في وقت غير الوقت
وعشان كده مقضينها سوا شد وخبط
بنهرب من نفسنا بنجري ولسة بنخاف
وفي حياة جوانا لسه ما عيشناهاش
يأتي الفنان من عوالم ثورة مهزومة، مثلما أتى بشارة من عوالم تجربة اشتراكية انتهت، يرتد الفنان في كايروكي مثل بشارة من تجربة الثورة المهزومة لخلاصه الفردي، يؤكد اغترابه عن زمنه ووصاله لعالم بداخله لم يحيَه بعد، ويرتدي سترة جيمس دين التي تُحيي تلك المعاني في كل زمان ومكان.
مثلما اعتنق سيف الحالة النيويوركية وديكوراتها ليبحث عن حالة صدق فنية تقوده لفرادته، لن يكتفي فنان «كايروكي» بتمثل جيمس دين إنما سيعتنق حالة آيس كريم في جليم ذاتها باعتبارها نوستالجيا الفنان الصادق الذي يبحث عن خلاصه الفردي في مسلسل «ريفو» الذي يؤكد صانعه يحيى إسماعيل والمطرب حسام حسني الذي شارك في العملين أنه يمثل نوستالجيا لعالم آيس كريم في جليم.
تحول «جيمس دين» إلى حالة عود أبدي لا تموت، إنما تُستعاد في كل زمن بالنوستالجيا أو الحنين لحالة نقية من التمرد لم تُهزم بعد ولم تشخ، إنما فرضت بموتها المبكر انتصارها على شروط الذبول ومثلت دعوة لكل التواقين لتتويج تمرد دين غير المكتمل بانتصار من تجربة زمنهم
يُستدعى «جيمس دين» في العصور التي تلي الحروب الكبرى والهزائم الكبرى، بحثاً عن خلاص فردي يهرب من الهزيمة الجماعية القاسية.
تبحث أجيال جديدة في «آيس كريم في جليم» عن الحالة ذاتها، يؤطر الفيلم وعالمه نفسه بوصفه حالة عود أبدي تستدعي أجيالاً شابة فيها طاقة التمرد ويستدعي فنانين فيهم حالة النوستالجيا لعالم يُمكن فيه أن يتحقق الفنان بفردانيته خاصة إن كان ابن ثورة وتجربة مهزومة.
لا تحوي غرفتي مُلصقات أبدًا، بقيت مساحتي الصغيرة على الحائط فارغة، خوفاً من أن أرى انعكاس ذاتي في مُلصق فنان مهما أفلت بفردانيته فهو ابن عصره، ومهما بشر بعالم جديد، لن يفلت فنه في ثورته وفي خضوعه من صورة زمنه.
لا يحيا جيمس دين بأسطورته بوصفه تعريفاً لما يجب أن يكون عليه الفنان، إنما بوصفه استثناء لفنان مات قبل أن يكتب قصته فباتت قصته مشاعًا لكل الهاربين من عصورهم المهزومة.
يقول بشارة إنه رأى في سيف صورة كولن ولسون اللامنتمي الذي يقول إن الرواية العظيمة هي التي تعكس ذات صاحبها، عكس «آيس كريم في جليم» ذات صاحبه وتحوله الفردي، ووثق بفرادة لحظة ضبابية لزمن يموت وزمن لم يولد بعد. وكل ما تبقى منه هو النوستالجيا والتحريض على إيجاد فرادتنا.
يمكن للفنان أن يكون فردانياً ويجب عليه ذلك، لكن حتى في فردانيته لن يولد فنه بمعزل عن زمنه، ولن ينجو بمعزل عن الاشتباك مع سردية عصره الكبرى. لذلك نجا عمرو دياب بوصفه سردية فردانية يسهل الإعجاب بها ولكن يصعب تمثلها باعتبارها تعبيراً عن عصرها.
يبدو «آيس كريم في جليم» دعوة صادقة لخلاص الفنان الفردي بموهبته، لكنه من ناحية أخرى دعوة ذكية لتمزيق الملصقات أو فكرة أن يمنحنا الفنان وصفة لكينونتنا وخلاصنا، لأن الفنان الوحيد الذي يُمكن أن تتجلى عليه تجاربنا هو فنان سخر تجربته للاشتباك مع سردية زمنه أكثر مما سخرها لخلاصه الفردي.